اللاجئون العراقيون... وإفلاس أميركا الأخلاقي
لقد انتهت رحلة ستة عشر يوماً أسطورية من المغامرة والمعاناة بجلب مقلد جميل الضابط السابق بالجيش العراقي إلى هذه البلدة الواقعة جنوبي السويد. وأكثر ما يخشاه مقلد الآن هو أن يُعاد توطينه في الجزء الواقع باتجاه المحيط المتجمد الشمالي، حيث البرودة العالية التي يخشى ألا يستطيع تحملها. ولذلك تراه يطلب من "أوسكار إيكبالاد"، ضابط إدارة الهجرة السويدية ألا يعيد توطينه في المناطق النائية في الشمال السويدي. أما المنظر الذي يراه مقلد هنا، فيبدو غريباً حتى بمقاييس الحرب العراقية نفسها. فها هو يقف خارج أحد بيوت الضيافة وقد كان مكتظاً باللحافات الملطخة، بينما يواصل ساكنوه من المهاجرين العراقيين التوسل إلى مسؤولي الهجرة السويدية كي لا يتم ترحيلهم إلى المناطق الشمالية القطبية شديدة البرودة. هذا وقد تزايد عدد هؤلاء المهاجرين الذين تعين عليهم بدء حياتهم من جديد هنا في السويد. ففي شهر أغسطس المنصرم قبلت السويد طلبات 12.259 من اللاجئين العراقيين الذين فروا من جحيم النزاع والحرب الدائرة في بلادهم، وهي تتوقع أن يرتفع العدد الكلي لهؤلاء المهاجرين إليها إلى 20 ألفاً للعام الحالي. وبالمقارنة لم تقبل الولايات المتحدة من هؤلاء خلال الفترة نفسها الممتدة بين شهر يناير وشهر أغسطس المنصرمين سوى 685 فحسب، بناءً على معلومات وبيانات وزارة الخارجية الأميركية. ويمكن تدقيق هذه المقارنة بمستوى أفضل مستخدمين لغة الأرقام نفسها ولا شيء سواها. ففي شهر يناير استقبلت السويد 1500 من اللاجئين العراقيين، مقابل 15 فقط استقبلتهم الولايات المتحدة في الشهر نفسه. أما في شهر أبريل، فقد دخل إلى السويد 1421 لاجئاً عراقياً مقابل لاجئ واحد فقط إلى الولايات المتحدة.
والملاحظ أن هؤلاء اللاجئين العراقيين الذين يصلون إلى أراضي وسواحل الدولتين المذكورتين، هم من المسجلين رسمياً في قوائم اللاجئين السياسيين لدى المفوضية السامية لشؤون اللاجئين بالأمم المتحدة، إلا أن أعداد من يدخلون إلى السويد التي يقدر سكانها بنحو 9 ملايين فحسب، لا يمكن مقارنتها مطلقاً بأعداد أولئك الذين تستقبلهم الولايات المتحدة التي يبلغ تعداد سكانها 300 مليون نسمة، مع أهمية الإشارة إلى أن أميركا هي التي أشعلت الحرب التي أدت إلى نزوح الملايين من العراقيين داخلياً وهجرة ملايين آخرين إلى الدول الأجنبية، بما فيها الدول الإقليمية المجاورة. وتأكيداً لهذه الحقيقة فإن من رأي "توباياس بيلستروم" وزير الهجرة السويدي، أن على الولايات المتحدة أن تبذل جهداً أكبر مما تقوم به في هذا السياق إزاء اللاجئين العراقيين، وبخاصة أولئك الآلاف منهم الذين غامروا بحياتهم من أجل خدمتها والوقوف إلى جانبها. وقال الوزير إن على واشنطن أن تتجاوز إفلاسها الأخلاقي في هذه الأزمة الإنسانية بالذات. وبصفتي كاتباً فقد راجعتُ معلوماتي جيداً وتأكدت من أن السويد لم تكن هي الدولة التي غزت العراق في صيف عام 2003. ولهذا فإن في السخاء الذي تبديه إزاء لاجئي هذه الحرب، ما يحرج أميركا ويلحق بإدارة بوش الحالية وصمة العار. والحق أن عجز أميركا عن مساعدة هؤلاء اللاجئين العراقيين يمثل فضيحة فضائح هذه الحرب مجتمعة.
ولكي لا نلقي القول جزافاً، فإننا ندرك أن الولايات المتحدة تنفق بسخاء على برامج الغوث الإنساني، حيث فاق معدل إنفاقها الكلي في هذا المجال 122 مليون دولار خلال العام الحالي وحده، قدمت جميعها كمساعدات مالية لجيران العراق بهدف مساعدة نحو مليوني لاجئ عراقي. كما ندرك أيضاً أنها شكلت قوة عمل خاصة باللاجئين في شهر فبراير المنصرم، إلا أن فكرة تلك القوة لم تؤد نتائجها المرجوة فلجأت إلى تعيين مسؤولين عن شؤونها خلال سبتمبر الحالي.
ومن جانبها قالت لي "باولا دوبريانسكي" وكيلة وزارة الخارجية الأميركية للديمقراطية والشؤون الدولية، إن لبلادها التزاماً أخلاقياً إزاء هؤلاء اللاجئين، لاسيما أولئك الذين عملوا في سفارتنا في بغداد. وفي المنحى نفسه، فقد وعدت واشنطن باستقبال 7 آلاف لاجئ عراقي خلال العام المالي الجاري الذي ينتهي بنهاية شهر سبتمبر الحالي. كما أن هناك وعداً آخر بإصدار تأشيرات دخول لنحو 500 ممن عملوا وأدوا مهام مختلفة لأميركا في العراق سنوياً. غير أن الوعود شيء والممارسة شيء آخر تماماً. وفي الحقيقة فإن بوش لم يتصدَّ مطلقاً لهذه القضية من جانبه. بل الأرجح أنه تعامل معها بذات النهج الذي يطبقه في المنطقة الخضراء... أي ما عليك إلا عزل الواقع القبيح الدموي عنك كي يزول ويختفي تماماً بضربة حظ ما! والحقيقة أيضاً أن استقبال واشنطن المكثف لأعداد كبيرة من اللاجئين العراقيين يعني استحالة عودتهم إلى العراق. وفي ذلك صفعة وأي صفعة لمشروعه العراقي كله. والأكثر من ذلك كما كتب "مايكل شيرتوف" وزير الأمن الوطني، فإنه يلزم فرض رقابة صارمة على هذه الأعداد الكبيرة من المهاجرين القادمين من إحدى الدول المعروفة بانتشار الإرهاب فيها. بيد أن النتيجة النهائية لكل هذه المخاوف والمحاذير -سواء كانت أمنية أم سياسية- هي أن وضع اللاجئين صار أقرب إلى عنق الزجاجة، على حد التعبير المتسرب عن مكالمة هاتفية لرايان كروكر السفير الأميركي لدى العراق. وبدلاً عن استقبال الولايات المتحدة لسبعة آلاف لاجئ خلال العام المالي الحالي حسب الوعد المقدم، فقد تقلص هذا العدد إلى 1600 فقط. وهذا ما دعا كيرك جونسون الذي عمل مع الوكالة الأميركية للتنمية الدولية في العراق إلى التعليق قائلاً إن هذا الرقم محرج للغاية، ولا يشير إلى أي التزام أخلاقي من جانب أميركا إزاء أزمة اللاجئين العراقيين هذه.
وفي واقع الأمر فقد أصبح هذا الالتزام الأخلاقي حقاً مكتسباً للعراقيين على أميركا، خاصة أولئك الذين غامروا بحياتهم وأرواحهم من أجل خدمتها والوقوف إلى جانبها. وبالنتيجة فقد قتل عدد كبير من هؤلاء، بينما تعرض عدد آخر للترهيب والترويع من قبل العناصر والمليشيات المعادية لأميركا بسبب مساندتهم لها. وبعد أن أصبح كل هذا مفهوماً الآن وواضحاً وضوح الشمس، فإن المطلوب على جناح السرعة هو التوصل لإجماع أميركي عام حول هذه المسؤولية والالتزام الأخلاقيين.
ــــــــــــــــــــ
كاتب ومحلل سياسي أميركي
ــــــــــــــــــــ
ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"